فصل: تفسير الآية رقم (123):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن فالحياة هي أن يكون الكائن على حال يؤدي به مهمته المطلوبة منه. وعلى هذا الاعتبار ففي الإنسان حياة، وفي الحياة حياة، وفي النبات حياة، وفي الجماد حياة، وكلما تقدم العلم يثبت لنا حيوات أشياء كثيرة جدًا كنا نظن ألا حياة فيها، وإن ظهر لنا في التفاعلات أن بعض الأشياء تتحول إلى أشياء أخرى، فعلى سبيل المثال الحيوان فيه حياة فإذا ذبحناه وأكلناه، ورمينا عظامه، كانت فيها حياة من نوع ثم صارت أجزاؤه إلى جمادية لها حياة من نوعها، بدليل أنه حين يمر بعض من الزمن يتفتت العظم.
وكنا قديمًا في الريف نحلب اللبن في أوعية من الفخار وتوضع في مراقد، ويستمر اللبن أسبوعًا في المرقد، ويكون أحلى في يومه عن أمسه. ويزداد اللبن حلاوة كل يوم، ثم تأخذ زوجة الفلاح قطعة القشطة الأخيرة وتصنع منها الجبن الجميل الطعم. أو الزُّبد لكن بعد أن غلينا اللبن نجده يفسد بعد عدة ساعات؛ لأنك حين وضعته في المرقد، أخذته بالحياة فيه فظلت فيه حيوية حياته، لكن حين غليته فقد قتلت ما فيه من الحياة، فإن لم تضعه في ثلاجة لابد من أن يتعفن، ومعنى التعفن أنه لم يعد يؤدي مهمته كلبن، وإنما انتقل إلى حياة أخرى بفعل البكتريا وغيرها، ولا يُذهب الحياة إلا الهلاك وهو ما قاله الحق: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ...} [القصص: 88]
إذن، لا تأخذ الميت على أنه شيء ليس فيه حياة، ولكنه انتقل إلى حياة ثانية.
{أوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناس...} [الأنعام: 122]
كأن للإنسان حياة في ذاته، ثم جعل الحق له نورًا يمشي به. كأن الحياة متنقلة في أشياء، ويحتاج الإنسان إلى حياة، ويحتاج إلى نور تتضح به مرائي الأشياء. وكانوا قديمًا يعتقدون أن الإنسان يرى حين ينتقل شعاع من عينه إلى المرئي فيراه، إلى أن جاء العربي المسلم ابن الهيثم. وقال هذا رأي جانبه الصواب في قانون الضوء، وقال: إن الإنسان يرى؛ لأن شعاعًا من المرئي يصل إلى عين الرائي. بدليل أن المرئي إن كان في ضوء يدركه الإنسان، وإن كان في ظلمة لا يدركه الإنسان، ولو كانت الأشعة تخرج من عين الإنسان لرأى الأشياء سواء أكانت في نور أم في ظلمة، وتعدلت كل النظريات في الضوء على يد العالم المسلم، وجاءت من بعد ذلك الصور الفوتوغرافية والسينما. إذن فالنور وسيلة إلى المرئيات.
ويترك الحق سبحانه وتعالى في أقضية الكون الحسية أدلة على الأقضية المعنوية؛ فالنور الحسيب الذي نراه إما ضوء الشمس وإما ضوء القمر، وإما ضوء المصباح، وإما غير ذلك، وهذا ما يجعل الإنسان يرى الأشياء، ومعنى رؤية الإنسان للأشياء أن يتعامل معها تعاملًا نفعيًا غير ضار. ونحن نضيء المصباح بالكهرباء حين يغيب النور الطبيعي- نور الشمس- وعندما نضيء مصابيحنا نرى الأشياء ونتفاعل معها ولا نحطمها ولا تحطمنا، وكل واحد منا يأخذ من النور على قدر إمكاناته. إذن كل واحد يضيء المكان المظلم الذي اضطر إليه بغيبة المنير الطبيعي على حسب استطاعته، فإذا ظهرت الشمس أطفأنا جميعًا مصابيحنا؛ هذا دليل من أدلة الكون الحسيّة الملموسة لنأخذ منها دليلًا على أن الله إن فعل لقيمنا نورا فلا نأتي بقيم من عندنا، مادامت قيمُهُ موجودة.
ويوضح الله أن الإنسان بدون قيم هو ميت متحرك، ويأتيه المنهج ليحيا حياة راقية. ويوضح سبحانه لكل إنسان: احرص على الحياة الثانية الخالدة التي لا تنتهي وذلك لا يتأتى الا اتباع المنهج، وإياك أن تظن أن الحياة فقط هي ما تراه في هذا الوجود لأنه إن كانت هذه هي غاية الحياة لما أحس الإنسان بالسعادة؛ لأنه لو كانت الدنيا هي غايتنا للزم أن يكون حظنا من الدنيا جميعًا واحدًا وأعمارنا واحدة، وحالاتنا واحدة، والاختلاف فيها طولًا وقصرًا وحالًا دليل على أنها ليست الغاية؛ لأن غاية المتساوي لابد أن تكون متساوية.
إذن فقول الله هو القول الفصل: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان...} [العنكبوت: 64]
فهذه هي الحياة التي لا تضيع منك ولا تضيع منها، ولا يفوتك خيرها ولا تفوته. إذن فالذي يحيا الحياة الحسية الأولى وهي الحركة بالنفخ في الروح هو ميت متحرك. {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ} [الأنعام: 122]
أي أنه سبحانه قد أعطى لمثل هذا العبد حياة خالدة ونورًا يمشي به، ولا يحطِّم ولا يتحطم.
أما من يقول: إن الحياة بمعناها الدنيوي، لا تختلف عن الحياة في ضوء الإِيمان، لمثل هذا نقول: لا، ليس بينهما تساوٍ فهما مختلفان بدليل ان الحق يقول: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال 24]
فسبحانه يخاطبهم، وما دام يخاطبهم فهم أحياء بالقانون العادي، لكنه سبحانه أنزل لرسوله المنهج الذي يحيا به المؤمن حياة راقية، وافطنوا إلى أن الحق سبحانه وتعالى أعطى ومنح الروح الأولى التي ينفخها في المادة فتتحرك وتحس بالحياة الدنيا، إنّه أعطاها المؤمن والكافر. ثم يأتي بروح ثانية تعطي حياة أبدية. ولذلك سمّي منهج الله لخلقه روحًا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]
فالمنهج يعطي حياة خالدة.
إذن فقوله الحق: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} أي أَوَ من كان ضالًا فهديناه، أو من كان كافرًا فجعلناه مؤمنًا. ولنلحظ أن فيه {ميْتًا} بالتخفيف، وفيه ميّت بالتشديد. والميّت هو من يكون مآله الموت وإن كان حيًّا، فكل منا ميّت وإن كان حيَّا. ولكن الميْت هو من مات بالفعل وسلبت وأزهقت روحه. ولذلك يخاطب الحق نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول له: {إنك ميّت} أي تؤول إلى الموت وإن كنت حيًّا الآن. لأن كٌلًا من مستمر في الحياة إلى أن يتلبس بصفة الفناء، ويقول الحق: {فأحييناه} أي بالمنهج الذي يعطيه حياة ثانية، ولذلك سمّي القرآن روحًا، وسمّي من نزل بالقرآن روحًا أيضًا.
{وجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناس} ولماذا يمشي به في الناس فقط، وليس بين كل الأشياء؟؛ لأن الأشياء الأخرى من الممكن أن تحتاط أنت منها، ولكن كلمة الناس تعبر عن التفاعل الصعب لأنهم أصحاب أغيار. ويتابع الحق: {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} وهذا تساؤل جوابه: لا، أي ليس كل منهما مساويا للآخر، مثلما نقول: هل يستوي الأعمى والبصير؟. والفطرة هنا تقول: لا، مثلما تؤكد الفطرة عدم استواء الظلمات والنور، أو الظل والحرور، وهنا يَأْمَنُنَا الله على الجواب؛ لأنه سبحانه- يعلم الأمر إذا طرح السؤال كسؤال وكاستفهام فلن نجد إلا جوابًا واحدًا هو ما يريد الحق أن يقوله خبرًا.
ويذيل الحق الآية: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]
والمعنى هنا أي تركناهم عرضة لأن ينفعلوا للتزيين، ولم يحمهم الحق بالعصمة في اختيارهم؛ لأنه سبحانه قد ترك الاختيار حرًّا للإنسان: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس {أو من كان ميتًا فأحييناه} قال: كان كافرًا ضالًا فهديناه {وجعلنا له نورًا} هو القرآن {كمن مثله في الظلمات} الكفر والظلالة.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {أو من كان ميتًا} قال: ضالًا {فأحييناه} فهديناه {وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس} قال: هدى {كمن مثله في الظلمات} قال: في الضلالة أبدًا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله: {أومن كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس} قال: نزلت في عمار بن ياسر.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {أومن كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس} قال: عمر بن الخطاب {كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} يعني أبا جهل بن هشام.
وأخرج ابن المنذر وابي أبي حاتم وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم في قوله: {أومن كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به الناس كمن مثله في الظلمات} قال: أنزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام، كانا ميتين في ضلالتهما فأحيا الله عمر بالإِسلام وأعزه وأقر أبا جهل في ضلالته وموته، وذلك أن رسول الله صلى عليه وسلم دعا فقال: «اللهم أعز الإِسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {أومن كان ميتًا فأحييناه} قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه {كمن مثله في الظلمات} قال: أبو جهل بن هشام.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي سنان {أومن كان ميتًا فأحييناه} قال: نزلت في عمر بن الخطاب.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {أومن كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس} قال: هذا المؤمن معه من الله بينة، وبها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي وهو كتاب الله: {كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} قال: مثل الكافر في ضلالته متحير فيها متسكع فيها لا يجد منها مخرجًا ولا منفذًا.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس {وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس} قال: القرآن. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {أو مَنْ كَانَ} تقدَّم أن الهَمْزَة يَجُوز أن تكُون مقدَّمة على حرف العطْفِ، وهو رَأي الجُمْهُور، وأن تكُون على حَالِها وبَيْنها وبيْن فِعْل مُضْمَر، و{مَنْ} في محلِّ رفع بالابتداء، و{كمَنْ} خَبَرْهُ، وهي مَوْصُولة، و{يمشي} في محلِّ نَصْب صِفَة لـ {نُورًا}.
قال قتادة: أراد بالنور: كَتَاب اللَّه تعالى بيّنه مع المُؤمن، بها يعمل، وبها يَأخُذ، وإليها يَنْتَهِي، و{مَثَلُه} مُبْتَدأ و{فِي الظُّلُمات}: خَبَرُه، والجُمْلَةُ صِلَةُ {مَنْ} الأولى و{ليس بِخَارج} في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من الموصُول، أي: مِثْل الَّذي اسْتَقَرَّ في الظُّلُمات حالً كَوْنه مُقِميًا فيها.
وقال أبُو البقاء: لَيْس بِخَارج في مَوْضِع الحَالِ من الضَّمِير في {منْها} ولا يَجُوز أن يكُون حالًا من الهَاءِ في {مَثَلُه} للفَصْل بَيْنَه وبيْن الحَال بالخبر.
وجعل مَكِّي الجُمْلَة حالًا من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في {الظُّلُمات} وقرأ طَلْحَة بن مُصْرِّف: {أفَمَنْ كَانَ} بالفَاءِ بدل الواو.
قوله: {كَذَلك زُيِّن} نعتُ لِمَصْدَر، فقدَّره بَعْضُهم: زُيِّن للكَافِرين تَزْينًا كما أحْيَيْنا المُؤمنين وقدَّره آخرَرُون: زين لِلْكَافرين تَزْيينًا لكون الكَافرين في ظُلُمات مُقِيمين فيها والفاعل المَحْذُوف من زُيِّن المنُوبُ عنه هو اللَّه تعالى ويجُوز أنْ يَكُون الشَّيْطَان، وقد صرَّح بكُلِّ من الفَاعِليْن مَعَ لفظ زيَّن، قال تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4]، وقال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} [العنكبوت: 38] و{مَا كَانُوا يَعْمَلُون}: هو القَائِم مقام الفَاعِل، وما يَجُوز أن نُون مَوْصُولة اسميَّة أو حَرْفِيَّة أوْ نَكِرة مَوْصُوفة والعائدُ على القولِ الأولِ والثالث محذوفٌ، دون الثاني عند الجُمْهورِ، على ما عُرِفَ غير مرَّةٍ.
وقال الزجاجُ: موضعُ الكافِ رفعٌ، والمعنى: مثل ذلك الذي قَصَصْنا عليك، زُيِّن للكافرين أعمالهم. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (123):

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان معلومًا أن عداوتهم له صلى الله عليه وسلم المشار إليها بقوله: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا} الآية، لا يقوم بها إلا أكابر الناس، لما كان عليه صلى الله عليه وسلم من جلالة المنصب وشرف العشيرة وكثرة الأقارب وأنه لا يتمادى عليها إلا جاهل مطموس البصيرة مزين له قبيح أعماله، عطف تعالى على التزيين للكافرين قوله: {وكذلك} أي مثل ما زينا للكافرين سوء أعمالهم، فكان أكابر أهل مكة يمكرون فيتبع غيرهم مكرهم {جعلنا} أي بما لنا من العظمة في إقامة الأسباب لما يعلي كلمة الإنسان أو يجعله حقير الشأن {في كل قرية} أي بلد جامع، ولما كان الكبر مختلف الأنواع باختلاف أشخاص المجرمين، طابق بأفعال التفضيل المقصودين لها في الجمع على إحدى اللغتين، وعبر بصيغة منتهى الجمع دلالة على تناهيهم في الكثرة فقال: {أكابر مجرميها} أي القاطعين لما ينبغي أن يوصل.
ولما كان من شأن الإنسان استجلاب أسباب الرفعة لنفسه، وكان لا يصل إلى ذلك في دار ربط المسببات بحكمة الأسباب إلا بالمكر، وكان الأكابر أقدر على إنفاذ المكر وترويج الأباطيل بما لأغلب الناس من السعي في رضاهم طمعًا فيما عندهم، وكان الإنسان كلما تمكن من ذلك أمعن فيه، وكان الكبير إنما يصل إلى ما قدر له من ذلك بتقدير الله له؛ كان بما قدر له من ذلك كأنه خلقه له، فقال معبرًا بالجعل لما فيه من التصيير والتسبيب: {ليمكروا فيها} أي يخدعوا أصاغرهم ويغروهم بما يلبسون عليهم من الأمور حتى يتبعوهم فيعادوا لهم حزب الله.
ولما كان ذلك موجعًا وغائظًا محزنًا، قال تصغيرًا لشأنهم وتحقيرًا لأمرهم: {وما} أي والحال أنهم ما {يمكرون إلا بأنفسهم} لأن عملهم بالمكر وبال عليهم موبق لهم، ولأن مكرهم بأولياء الله إنما هو مكر بالله، وذلك غير متأت ولا كائن بوجه من الوجوه، وكيف يتأتى مكر من لا يعلم شيئًا من الغيب بمن يعلم جميع الغيب! {وما يشعرون} أي وما لهم نوع شعور بأن مكرهم عائد على نفوسهم، لأن الله تعالى الذي يعلم سرهم وجهرهم يجعل بما يزين لهم تدميرهم في تدبيرهم، وإنما أجرى سنته الإلهية بذلك لما يشتمل عليه من أعلام النبوة، فإن غلبة شخص واحد- بمفرده أو باتباع كثير منهم ممن لا يؤبه لهم مع قلة العدد وضعف المدد لرؤساء الناس وأقويائهم مع طول مكثه بينهم منابذًا لهم مناديًا عليهم بأن دينكم يمحى وديني يظهر وإن كرهتم- من خوارق العادات وبواهر الآيات تصديقًا لقوله تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21] {وإن جندنا لهم الغالبون} [الصافات: 173]- في أمثال ذلك. اهـ.